في أعقاب ثورة يناير 2011 انطلقت العديد من الأصوات المشيدة من جميع أنحاء العالم، وتبارت قيادات الدول ومفكروها في الثناء والمديح للفعل والفاعل ..الثورة والثوار ومن ضمن الأقوال التي ظلت في ذاكرتي لسنوات طويلة بعد انقضاء الحدث هي مقولة سيلفيو بيرلسكوني رئيس الوزراء الايطالي «لا أرى جديدا يحدث في ميدان التحرير .. فالمصريون قد صنعوا التاريخ كالعادة».
كنت بالأمس في رحاب مركز الإبداع الفني أشاهد عرض تخرج أحدث دفعات المواهب بالمركز تحت اسم «سينما مصر» تحت قيادة ورؤية وإشراف الكاتب والمخرج الكبير د.خالد جلال .
الحقيقة أنني طوال علاقتي بمركز الإبداع بدار الأوبرا المصرية كمشاهدة ومتابعة، شغوفة لنشاطه الثقافي والترفيهي منذ العرض الأسطورة «قهوة سادة» في 2008. وفي كل مرة ينطلق طابور الموهوبين ليقدم عرضا جديدا أشعر بدماء حارة " فريش" تتدفق في شرايين الفن المصري. وأصبحت ومعي الكثيرين من محبي الفن نستطيع أن نرى ونميّز بسهولة الأسماء التي ستلمع وتتألق وتحتل أفيشات الأفلام وتترات المسلسلات فيما بعد من بين المجموعات الضخمة من الأسماء والمواهب والشخصيات المختلفة التي يقدمها خالد جلال هدية للفن المصري في كل ورشة.
بعد مشاهدتي لأحدث عروض المركز «سينما مصر» والذي تتضح هويته وفكرته الرئيسية من عنوانه، وجدت صوتًا داخلي يكرر لا أرى جديدا يحدث في مركز الإبداع. فخالد جلال يصنع التاريخ كالعادة. العرض مكون من أكثر من أربعين لوحة منفصلة متصلة يربط بينها جميعا أكثر من فكرة ورؤية جامعة. الفكرة الأولى والأكثر وضوحا وتأثيرا فيّ أنا بشكل خاص هي الإسقاط الذي أحدثه المخرج على قصة وشخصيات واحد من أرق وأرقى كلاسيكيات سينما مصر وهو فيلم «الليلة الأخيرة» بطولة فاتن حمامة ومحمود مرسي وأحمد مظهر واخراج كمال الشيخ من انتاج عام 1963. وما استحدثه العرض هو تلك الرمزية البديعة التي ربط فيها بين شخصية "نادية" بطلة الفيلم، التي تعاني من فقدان الذاكرة واستماتة "شاكر" زوج شقيقتها المتوفاة في الوقوف ضد عودة ذاكرتها إليها أو مساعدتها على العودة لشخصيتها الحقيقية القوية المبهجة الباعثة للأمل والنور، وبين مصر التي سادت العالم وغزت فنونها الأفاق وعلمت سكان الأرض الحضارة والفنون، والتي تعاني سباتا عميقا وحربا شرسة من كل اتجاه.
أحدثت تلك الرمزية، وذلك الربط في نفسي أثرا لا ينسى ولا يمكن وصفه، وأثرى ذلك الأثر وقواه اللوحات التي قدمها موهوبي الورشة الجديدة لأكثر أفلام السينما المصرية تأثيرا ونجاحا وانتشارا. ليس في مصر فقط بل ارتبط بها كل أبناء الوطن العربي، وتربوا عليها وتأثروا وأسروا بها. فحدث أن استحضر العرض روح اسماعيل ياسين في أكثر من لوحة أضحكت الحضور حتى الدموع. ليؤكد العمل ومخرجه فكرتهما الأصيلة أن الفن في مصر هو أصل الشجرة، وانه وإن غاب الفنان فإن أثره لا يغيب.
الحقيقة أنني قد قضيت ليلة من أبدع ليالي السمر المسرحية كالعادة في مركز الإبداع. في انتظار انطلاق تلك الأسماء التي لا زالت تتحسس طريقها إلى أفاق أرحب ونجاحا يستحقونه بلا شك.